لقد عرف المغرب خلال فترات ما قبل التاريخ تعاقب عدة حضارات:
· العصر الحجري القديم :
o الحضارة الآشولية: تعود بقايا هده الحضارة إلى حوالي 700.000 سنة وأهم الاكتشافات تمت بمواقع مدينة الدار البيضاء( مقالع طوما وأولاد حميدة، وسيدي عبد الرحمان...). الأدوات الحجرية الخاصة بهده الحضارة تتكون من حجر معدل، حجر دو وجهين....
· العصر الحجري الأوسط :
o الحضارة الموستيرية: عرفت هده الحضارة في المغرب بين حوالي 120.000و 40.000 سنة ق.م و من أهم المواقع التي تعود إلى هده الفترة نذكر مــوقع جبل "يعود" والذي عثــر فيــه علــى أدوات حجرية تخص هذه الفــترة
( مكاشط...) وكذلك على بقايا الإنسان والحيوان.
o الحضارة العاتيرية: تطورت هذه الحضارة في المغرب بين 40.000 سنة و 20.000سنة وهي حضارة خاصة بشمال إفريقيا وقد عثر عليها في عدة مستويات بعدة مغارات على الساحل الأطلسي: دار السلطان 2 ومغارة الهرهورة والمناصرة 1و2....
· العصر الحجري الأعلى:
o الحضارة الإيبروموريزية: ظهرت هده الحضارة في المغرب مند حوالي 21.000 سنة وتميزت بتطور كبير في الأدوات الحجرية والعظمية. أهم المواقع التي تخلد هده الفترة نجد مغارة تافوغالت والتي تقع في نواحي مدينة وجدة.
· العصر الحجري الحديث:
o يلي هدا العصر من الناحية الكرونولوجية الفترة الإيبروموريزية وقد تطور في المغرب حوالي 6000 سنة ق م. تتميز هذه الحضارة بظهور الزراعة واستقرار الإنسان وتدجين الحيوانات وصناعة الخزف واستعمال الفؤوس الحجرية...في المغرب هناك عدة مواقع عثر فيها على هده الحضارة ونذكر على سبيل المثال: كهف تحت الغار وغار الكحل ومغارات الخيل ومقبرة الروازي الصخيرات....
· عصر المعادن:
o يرجع هدا العصر إلى حوالي 3000 سنة ق.م وأهم مميزاته استعمال معدني النحاس ثم البرونز وأهم خصائصه ما يعرف بالحضارة الجرسية ثم حضارة عصر البرونز.
حضارات العصر الكلاسيكي بالمغرب
· الفترة الفينيقية:
يرجع المؤرخ Pline l’ancien بدايات تواجد الفينيقيين بالمغرب إلى حوالي نهاية القرن الثاني عشر ق.م مع ذكر موقع ليكسوس كأول ما تم تأسيسه بغرب المغرب. لكن بالنظر إلى نتائج الحفريات الأثرية نجد أن استقرار الفينيقيين بالمغرب لا يتجاوز الثلث الأول من القرن الثامن ق.م. بالإضافة إلى ليكسوس نجد موكادور التي تعتبر أقصى نقطة وصلها الفينيقيين في غرب المغرب. الاكتشافات الأخيرة أغنت الخريطة الأركيولوجية الخاصة بهذه الفترة بالمغرب حيث تم اكتشاف عدة مواقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
· الفترة البونيقية:
في القرن الخامس ق م قام حانون برحلة استكشافية على طول شواطئ المغرب حيث قام بتأسيس عدة مراكز، التأثير القرطاجي يظهر بالخصوص في عادات الدفن وانتشار اللغة البونيقية. ومنذ القرن الثالث ق.م ، مدينة وليلي الموريطانية كانت تخضع لحكم يشبه حكم قرطاج.
· الفترة الموريتانية :
أقدم ما ذكر حول الملوك الموريتانيين يعود إلى الحرب البونيقية الثانية حوالي 206 ق م و ذلك حين وفر الملك باكا حماية للملك ألنوميدي ماسينسا تتمثل في 4000 فارسا. أما تاريخ المملكة الموريطانية فلم تتضح معالمه إلا مع نهاية القرن الثاني ق.م و ذلك مع الاهتمامات التي أصبحت توليها روما لهذا الجزء من أفريقيا. في سنة 25 ق م، نصبت روما الملك جوبا الثاني علـــى رأس المملكة. و بعــد اغتيال" الملك بتوليمي" من طرف الإمبراطور كاليكيلا سنة 40 ق م تم إلحاق المملكة الموريتانية بالإمبراطورية الرومانية.
· الفترة الرومانية:
بعد إحداث موريتانيا الطنجية، قامت روما بإعادة تهيئة لعدة مدن: تمودة، طنجة، تاموسيدة، زليل، بناصا، وليلي، شالة ... . كما قامت بإحداث عدة مراكز ذات أهداف عسكرية، و خلال هذه الفترة عرف المغرب انفتاحا تجاريا مهما على حوض البحر الأبيض المتوسط. في سنة 285 بعد الميلاد تخلت الإدارة الرومانية على كل المناطق الواقعة جنوب اللكوس باستثناء سلا و موكادور. مع بداية القرن الخامس الميلادي، خرج الرومان من كل مناطق المغرب.
الحضارات الإسلامية بالمغرب
الدولةالإدريسة
خلافا أقاليم و بلدان المشرق لم يكن فتح المغرب بالشيئ الهين، فقد استغرق الأمر نصف قرن من [ 646م إلى 710م]. باعتناق المغاربة الإسلام ظهرت بوادر انفصال هذا الإقليم عن الخلافة بالمشرق. عقب عدة محاولات تحققت هذه الرغبة بظهور أول دولة إسلامية بالمغرب هي دولة الأدارسة سنة 788م. وقد كان مؤسس هذه الدولة حفيد الرسول (ص) الشريف مولاي ادريس ابن عبد الله، الذي حل بالمغرب الأقصى فارا من موقعة فخ قرب مكة (786). استقر بمدينة وليلي حيث احتضنته قبيلة آوربة الأمازيغية و دعمته حتى انشأ دولته. هكذا تمكن من ضم كل من منطقة تامسنا، فزاز ثم تلمسان. اغتيل المولى ادريس الأول بمكيدة دبرها الخليفة العباسي. بويع ابنه ادريس الثاني بعد بلوغه سن الثانية عشر. قام هذا الأخير ببناء مدينة فاس كما بسط نفوذه على مجمل المغرب.
دولة المرابطين
في القرن السادس عشر الميلادي ظهر بجنوب المغرب الأقصى مجموعة من الرحل ينتمون لقبيلة صنهاجة الأمازيغية. استطاع عبد الله بن ياسين، وهو أحد المصلحين الدينيين أن يوحد هذه القبيلة و ينظمها وفق مبادئ دينية متخذا اسم المرابطين لحركته. و هكذا سعى المرابطون إلى فرض نفسهم كقوة فاعلة وتمكنوا من إنشاء دولتهم عاصمتها مراكش التي أسسوها سنة 1069م. بسط المرابطون سلطتهم على مجمل شمال إفريقيا و الأندلس ابتداء من 1086م.
الدولة الموحدية
في بداية القرن 12م تعاظم بالمغرب شأن المصلح الديني و الثائر السياسي المهدي بن تومرت. حيث استقر بقرية تنمل بجبال الأطلس الكبير جنوب شرق مراكش. و نظم قبائل مصمودة من حوله بغرض الإطاحة بدولة المرابطين التي اعتبرها زائغة عن العقيدة الصحيحة للإسلام، كما سمى أتباعه بالموحدين. استطاع الموحدون بقيادة عبد المومن بن علي من السيطرة على المغرب الأقصى كله بحلول سنة 1147م. كما تمكن من بسط نفوذه على شمال إفريقيا كلها والأندلس مؤسسا بذلك أكبر إمبراطورية بغرب المتوسط منذ الإمبراطورية الرومانية.
الدولة المرينية
ظهر المرينيون بالتخوم الشرقية بالمغرب، واستطاعوا تشكيل قوة عسكرية وسياسية مكنتهم من الإطاحة بدولة الموحدين سنة 1269م. حكم المرينيون المغرب لمدة قرنيين لم يستطيعوا خلالها الحفاظ على الإرث الكبير الذي حلفه الموحدون. مما أجبرهم في نهاية الأمر على توجيه اهتمامهم على الحدود الترابية للمغرب الأقصى.ستتميز نهاية حكمهم بانقسام المغرب إلى مملكتين: مملكة فاس ومملكة مراكش، إضافة إلى سقوط مجموعة من المدن في يد المحتل الإيبيري، كسبتة 1415م و القصر الصغير 1458 و أصيلا و طنجة 1471 و مليلية 1497.
الدولة السعدية
انطلقت حركة الشرفاء السعديين من جنوب المغرب تحديدا من مناطق درعة. وقد اتخذت شكل مقاومة جهادية ضد المحتل الإيبيري للمدن الساحلية. غير أن السعديين ما فتؤوا يتحولون إلى قوة عسكرية وسياسية تمكنت من فرض نفسها في غياب سلطة مركزية قوية قادرة على توحيد البلاد ودرء المحتل. وقد ساعد في بروز دولة السعديين سلسلة الإنتصارات المتلاحقة التي حققوها والتي كللت بدخولهم مراكش سنة 1525م تم فاس سنة 1554م. وقد كان هذا إيذانا بقيام حكم الدولة السعدية بالمغرب.
لقد كان الإنتصار المدوي للسعديين على البرتغال في معركة وادي المخازن (معركة الملوك الثلاث) سنة 1578م بالغ الأثر على المغرب، حيث أعاد للمغرب هيبته في محيطه الجييوستراتيجي، كما مكنه من الإستفادة اقتصاديا خاصة في علاقته مع إفريقيا. كانت وفاة المنصور الذهبي سنة 1603م إيذانا باندحار دولة السعديين بفعل التطاحن على السلطة بين مختلف أدعياء العرش.
الدولةالعلوية
النزاع السياسي الذي خلفه السعديون سيدوم 60 سنة انقسم أثناءها المغرب الأقصى إلى كيانات سياسية جهوية ذات طابع ديني مثل إمارة تازروالت بسوس. هكذا وابتداءا من سنة 1664 ظهر الشريف مولاي رشيد بتافيلالت وانطلق في حملة عسكرية هدفها توحيد البلاد من التشرذم وتأسيس سلطة مركزية قوية، بسط مولى رشيد سلطته مؤسسا بذلك دولة العلويين. وقد كان على خلفه السلطان مولاي إسماعيل دور تثبيت سلطة الدولة الناشئة وفرض هيبتها. استمر عهد السلطان المولى إسماعيل 50 سنة تمكن خلالها من بناء نظام سياسي للدولة. تولى السلاطين العلويين على الحكم متحديين أزمات متعددة داخلية وأخرى خارجية من أبرزها فرض الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912م. وبفضل تضحيات العرش والشعب استعاد المغرب استقلاله سنة 1956 معلنا عن ميلاد عهد جديد بالمغرب.
حضارة بابليةبابل Babylonia تعني (بوابة الإله) كان الفرس يطلفون عليها بابروش Babirush دولة بلاد مابين النهرين القديمة. كانت تعرف قديما ببلاد سومر وبلاد سومر أكد وكانت تقع بين نهري دجلة والفرات جنوب بغداد بالعراق. فظهرت الحضارة البابلية ما بين القرنين 18ق.م. و6 ق.م. وكنت تقوم علي الزراعة وليس الصناعة. وكانت بابل :Babylon. دولة أسسها حمورابي الدولة البابلية عام 1763ق.م. وهزم آشور (مادة ) عام 1760 ق.م, وأصدر قانونه (قانون حمورابي) وفي عام 1600ق.م. إستولي ملك الحيثيين مارسيليس علي بابل واستولي الآشوريون عليها عام 1240 ق.م. بمعاونة العلاميين. وظهر بنوخدنصر كملك لبابل (11245ق.م.- 1104 ق.م.) ودخلها الكلدان عام 721 ق.م.( ثم دمر الآشوريون مدينة بابل عام 689 ق.م. إلا أن البابليين قاموا بثورة ضد حكامهم الآشوريين عام 652 ق.م. وقاموا بغزو آشور عام 612 ق.م. واستولي نبوخدنصر الثاني علي أورشليم عام 578 ق.م. وسبي اليهود عام 586 ق.م. الى بابل. وهزم الفينيقيين عام 585 ق.م. وبني حدائق بابل المعلقة. ثم إستولي الإمبراطور الفارسي قورش علي بابل عام 500 ق.م. وضمها لإمبراطوريته.
الحضارة الفينيقية (3000 - 334 ق.م)
- إن الحضارة الفينيقية امتدت إلى أصقاع الأرض ذلك لأنها أول أمة بحرية في التاريخ. هذا الفضاء الذي ينمي عشق الحرية و يشحذ العزم على التحدي و تجاوز ما يخبئه البحر من ويلات، لهذا كانت الحضارة الفينيقية حضارة السيطرة على المحيط الطبيعي.
تاريخ الفينيقيون:
احتل الكنعانيون منطقة بلاد الشام الواقعة بين البحر المتوسط و بلاد الرافدين، فسيطروا على معظم جزر البحر المتوسط حتى امتدت مستعمراتهم من قرطاج في شمال أفريقيا إلى كورسيكا و جنوب إسبانيا. أطلق عليهم اليونان اسم الفينيقيون "xinoehΡ " الذي يحمل معنى الأرجوان نسبة إلى اكتشافهم للصباغ الأرجواني. ضمت مستعمرات الفينيقيين بعض المدن الواقعة على الساحل السوري الممتد من أقصى شمال سوريا حتى جنوب فلسطين مثل صور، صيدون (صيدا)، بيروت، جبيل، أوغاريت، الإسكندرون، عكا... كما أنها ضمت مدينة قرطاج.
صيدا: اتخذها الفينيقيون عاصمة لهم. انطلقوا منها ليؤسسوا محطات تجارية في دول عديدة و قد أثبت علماء التاريخ أن الفينيقيين وصلوا إلى أمريكا الشمالية و الجنوبية كما أنهم سبقوا كريستوفر كولومبس في اكتشاف القارة الأمريكية الشمالية بقرون عديدة. عرفت مدينة صيدا بتجارتها التي سيطرت على المنطقة خلال القرن الثاني عشر و الثالث عشر.
جبيل (بيبلوس): اشتهرت جبيل بمكانتها الدينية و التجارية كما أنها عرفت بموطن ولادة الأبجدية الرومانية المأخوذة عن الكتابة الفينيقية. من الآثار الفينيقية الموجودة في مدينة جبيل: بقايا البوابات و الأسوار المحصنة للمدينة، و عدة هياكل و مقابر ملوك جبيل التي تقع تحت الأرض.
صور: انطلق منها الفينيقيون بقيادة الملكة أليسار و هي ابنة الملك ميتينوس، ليؤسسوا مدينة قرطاج في شمال أفريقيا. أحرزت صور تقدما˝ في مجال التجارة مما جعلها تتفوق على صيدا. و قد عرف البحر المتوسط لفترة من الزمان ببحر صور. أما الآثار الموجودة في مدينة صور تعد قليلة، و منها: حاجز الماء و حائل الأمواج الذي يعد معزولا˝ عن ساحل المدينة، و مقبرة آحيرام الأول (الملك الذي حكم صور) التي تبعد بضعة كيلومترات عن المدينة.
بعلبك: أنشأها الفينيقيون في أوائل العام 2000 ق.م فبنوا فيها أول هيكل الذي أهدى لإله الشمس، بعل. و من هنا حصلت المدينة على اسمها. لكن الهيكل لا يمكن رؤيته الآن بسبب الأعمدة الرومانية التي بنيت فيما بعد في بعلبك. كانت بعلبك، على عكس المدن لأخرى، معزولة عن التجارة.
قرطاج: أسستها الملكة أليسار . عرفت قرطاج بعاصمة المجد و ملكة البحار بسبب ما احتلته من مكانة عالية من الرقي و التمدن و الازدهار. امتازت هذه المدينة بالحيوية و البراعة و الإبداع. استطاعت أن تسيطر على المستعمرات المغربية كما أنها لعبت دورا˝ حضاريا˝ في شمال أفريقيا و جزر البحر المتوسط و بريطانيا.
المعتقدات الدينية عند الفينيقيين:
اعتمد الدين الفينيقي السامي الأصل على الاعتقاد بظاهرة الخصوبة و الإنتاج. آمن الفينيقيون ببعض قوى الطبيعة التي أحاطت بهم، كما أنهم عبدوا الكثير الكثير من الآلهة. كان لكل مدينة إله يعبد. سمى الفينيقيون بعض آلهتهم نسبة إلى المدن التي أقاموا فيها. و من الآلهة التي عبدها الفينيقيون و قدسوها: إله القوى الكامنة (الإله إيل)، آلهة الخصب (عشتار)، إله المطر (الإله بعل)، الإله (أشمون)، الإله (إيسيس) . أما في قرطاج، فقد عبدوا آلهة الخصوبة و الإنتاج (تانيت)، و الإله (بعل آمون) بالإضافة إلى الآلهة التي عبدت في بلاد الشام. و قد استمرت عبادتهم حتى العهد الروماني.
اعتقد الفينيقيون بالحياة الثانية فبنوا مقابرهم التي وضعوا فيها الميت بالإضافة إلى أدوات خاصة به للاعتقاد بأنها ستلزمه عند قيامه في الحياة الثانية. و قد امتازت هذه الأدوات بالبساطة فضمت بعض الأدوات المنزلية التي كان يستعملها الفينيقيون كالأواني الفخارية و المصابيح الزيتية. إلى جانب المقابر، شيد الفينيقيون معابد امتازت بالتأثر بالطابع اليوناني و قد اهتم بها الكهنة المتفرغون الذين عرفوا بتوارث الكهانة في عائلتهم.
نظام الحكم في فينيقيا:
تألفت فينيقيا من عدة ممالك و ضمت كل مملكة مدينة اعتبرت عاصمة لها. عرف نظام الحكم في فينيقيا بالملكي الوراثي حيث كان يمثل الملك الآلهة و له السلطة المطلقة في إدارة شؤون المملكة التي يحكمها. أما كبار المدينة و رجال الدين و القضاة لعبوا دور مساعدو الملك في إدارة المملكة. أما الجيش فقد تكفل حماية المملكة و تأمين القوافل التجارية.
إنجازات الفينيقيون:
اختراع الأبجدية:
تعد اختراع الأبجدية من أعظم ما قدمته الحضارة الفينيقية للبشرية. ابتكرت هذه الكتابة عام 1100 ق.م و قد تألفت من 22 حرفا˝ يمثل كل واحد منها صوت معين. سميت أيضا˝ بأبجدية جبيل. استعان الفينيقيون بالكتابة السومرية و المصرية القديمة ثم طوروها مع مرور الزمن. في البداية، كانت تكتب هذه الحروف على ألواح من الطين أو الفخار ثم فيما بعد، كتبت على أوراق البردى المصرية. لقد كتب الفينيقيون هذه الحروف من اليمين إلى الشمال (مثل العربية) و نشروها في جميع بلاد العالم شرقا˝ و غربا˝؛ ساهم في نشرها قدموس الصوري. أكسب اختراع الأبجدية فينيقيا مكانا˝ هاما˝ في تاريخ الحضارة.
اكتشاف الصباغ الأرجواني: كان الفينيقيون أول من اكتشف اللون الأرجواني
فاستخرجوه من أصداف المريق و هي نوع من المحار وجد بالقرب من الشواطئ الفينيقية. أدخل الفينيقيون الصباغ الأرجواني على أقمشتهم فاشتهروا بصناعة الأقمشة الأرجوانية اللون.
صناعة السفن:
كانت السفن الفينيقية عبارة عن مراكب شراعية تتألف من سارية واحدة، شراع مربع،
و مجاديف يدوية. اعتمد عليها الفينيقيون في تجارتهم و أسفارهم و تبادل صناعاتهم مع الدول الأخرى المجاورة لها و البعيدة عنها.
الحياة الاقتصادية في فينيقيا:
ازدهرت الحياة الاقتصادية في فينيقيا بسبب تقدمها صناعة و تجارة و حرفة. تركز عمل الفينيقيين على البحر فعملوا بصيد السمك و الإسفنج و الملاحة و صناعة السفن. كما أنهم برعوا في صناعات عديدة منها صناعة العاج و الزجاج و الأقمشة الأرجوانية اللون و الزهريات الحادة القعر و الفخاريات. ساهم اطلاع الفينيقيون على صناعة الحديد (في الألف الثاني ق.م) في صناعة الخزف. كان الفينيقيون يقلدون الصناعة المصرية و الكريتية و الميسينية مما مكنهم من بلوغ منزلة عظيمة في الصناعة و الفن. بعض هذه الصناعات (الفخار و الزجاج) محفوظة الآن في متحف طرابلس.
أما بالنسبة للتجارة في فينيقيا، فقد بلغت أعلى درجاتها و تنوعت الأغراض التي تاجروا فيها فكان منها الصباغ الأرجواني و الأقمشة، الزجاج، المعادن، الفخار، النبيذ، الغار و الأرز، الخشب... كل هذه الأشياء كانوا يتبادلونها مع اليونان، إيطاليا، إسبانيا، و الجزر المتوسطية. كما أنهم خاطروا بالإبحار إلى أبعد من ذلك حتى وصلوا الرأس الأخضر في بريطانيا.
- أصبحت فينيقيا أحد أغنى و أهم المقاطعات في الإمبراطورية الفارسية و استولى الاسكندر الأكبر على فينيقيا عام 332 ق.م.
مظاهر الحضارة الفينيقية في طرابلس
لقد بلغ الفينيقيون في المدنية مبلغا كبيرا واحتكروا لأنفسهم الاتجار مع بلدان البحر الأبيض المتوسط وأخذ تجارهم ينشئون المراكز التجارية على طول الطريق التي كانوا يسلكونها عند سفرهم . وقد بلغت المراكز التي أنشأوها الذروة في النشاط في منتصف القرن العاشر وأواسط القرن الثامن عندما أسسوا مستعمرتهم قادس في اسبانيا وأوتيكا في تونس التي تأسست حوالى الألف الأول ق.م . وكان الفينيقيون يعرضون على أهالي البلاد البضائع التي كانوا يجلبونها معهم ، ولم يقتصر أثرهم على التعامل التجاري ، بل تجاوز إلى بث مظاهر الحضارة والمدنية .
وقد امتد نفوذ الفينيقيون داخل الأراضي الليبية حتى حدود برقة ، حيث أسسوا بعض المدن المهمة التي لعبت دورا كبيرا في تاريخ الشمال الأفريقي ، فقد تطلبت عملية الاستيراد والتصدير والتعامل الاقتصادي بين الفينيقيين وأهالي البلاد إنشاء محطات ساحلية وموانئ ترسو عندها السفن وقد اختار الفينيقيون عند مجيئهم إلى شمال أفريقيا الأماكن المناسبة ، ولهذا الغرض يعتبر المؤرخون تأسيس تلك المحطات بداية العصر الفينيقي في تاريخ الشمال الأفريقي .
مجيء الفينيقيين إلى ليبيا : كان الفينيقيون عند عبورهم مياه البحر الأبيض المتوسط قادمين من شواطئ سوريا في طريقهم إلى إسبانيا لجلب معدن الفضة والقصدير تسير سفنهم بمحاذاة الساحل الغربي من ليبيا ، وذلك لأن الملاحين اعتادوا في ذلك الزمن عدم الابتعاد كثيرا على الشاطئ خوفا من اضطرابات البحر وكانت سفنهم ترسو على شواطئ طرابلس للتزود بما تحتاج إليه من عتاد وغيره من الأشياء الضرورية أثناء رحلاتهم التجارية .
وقد نمت تجارة الفينيقيين على الساحل الغربي من ليبيا ، وذلك لأن إقليم طرابلس كان مركزا ممتازا للوصول إلى أواسط أفريقيا الغنية بمنتوجاتها المريحة كالذهب والأحجار الكريمة والعاج وخشب الأبانوس ، فأنشأ الفينيقيون لهذا السبب بعض المراكز المهمة في ساحل طرابلس ، وذلك لجمع ما يمكن جمعه من البضائع المختلفة التي تأتي من أواسط أفريقيا . وهناك طرق معينة سلكها التجار الليبيون في تلك الفترة لنقل تلك البضائع عبر الصحراء حتى تصل إلى المراكز الشمالية ، فقد كانت تخرج من جرمة طرق القوافل التي تسير شمالا عبر رمال أوباري إلى إدري ثم إلى صبراتة ، حيث استقر الفينيقيون كما كان هناك طريق آخر من جرمة إلى سبها ومنها إلى براك ثم تعبر الحمادة الحمراء إلى جرزة ومنها إلى لبدة . وكان السير على هذه الطريق من جرمة لساحل البحر يستغرق حوالى الشهر أي ثلاثين يوما كما يقول هيرودوت .
نفهم من هذا أن مدينة جرمة كانت مركزا مهما تجمع فيه منتوجات أواسط أفريقيا ثم تنقلها القوافل عبر الصحراء إلى المراكز الساحلية ، حيث تباع إلى التجار الفينيقيين مقابل المواد التي كانوا يجلبونها معهم . هذا وقد دلت الحفريات الأخيرة في مدينة صبراتة الأثرية على أنه كان يوجد مركز تجاري خاص بالفينيقيين أيام المواسم التجارية منذ القرن الثامن ق.م كما يعتقد أنه أسست مراكز مشابهة في نفس الوقت في لبدة وأويا ، كما أنه اكتشف في سوق مدينة لبدة تمثال لفيل من الرخام سنة 1931م تحت إشراف جاكمو كويدي في شارع النصر بين قوس الأمبراطور هادريان وقوس تيبريوس ، ويعتقد أنه كان شعارا لأحد التجار في المدينة المذكورة أيام العهد الروماني ، مما يدل على أن التجارة المتعلقة بهذا الحيوان ظلت منتشرة حتى العهد الروماني . وفتح عهد جديد في تاريخ البحر الأبيض المتوسط عندما بدأ الفينيقيون يحولون مراكزهم التجارية التي أقاموها على امتداد الساحل الشمالي من أفريقيا إلى مستعمرات مستديمة كقادس باسبانيا وأوتيككا في تونس وقرطاجنة ولبدة الكبرى وأويا و صبراتة.
هذا ولم يتأكد لدى المؤرخين عن زمن تأسيس المراكز التي أسسها الفينيقيون في طرابلس الغرب إلا أن بعض الدارسين ذكروا أن مهاجرين من صور وصيدا هم الذين أسسوا تلك المراكز حوالى القرن الثاني عشر والعاشر ق.م . ويذكر الشاعر اللاتيني سيليوس أتاليكوس أن لبدة وصبراتة استعمرتا من طرف أهل صور ، أما أويا فاستعمرت من طرف مهاجرين يظن أنهم من أصل فينيقي هاربون من اضطرابات أهلية . ومما يؤكد علاقة الفينيقيين بالساحل الليبي هو ما اكتشف في طرابلس وتونس من نقوش بونيقية تضمنت اسم الليبيين ، فإن الفينيقيين اتصلوا بالسكان الليبيين قبل امتداد سلطانهم إلى غربي ليبيا ، ومن المؤكد اتصالهم بالليبيين عندما أقاموا مدن الأسواق ، وقد ثبت لدى المؤرخين أن الاستعمار الفينيقي في طرابلس قد تم في وقت متأخر وبحماية قرطاجنة التي أصبحت ذات نفوذ كبير ويحتمل أن استقرار الفينيقيين في ليبيا كان بعد محاولة الإغريق الاستيطان في وادي كعام في أوائل القرن السادس ق.م ، فقد نزلت جماعة من اليونانيين بقيادة داريوس الاسبرطي لاستعمار بعض المناطق الليبية قرب سرت سنة 250 ق.م ، وقد أسس القائد المذكور عند نزوله في طرابلس في مصب وادي كعام مستعمرة عرفت باسم سنيبس اوكنيبس أي تحمل اسم الوادي المذكور ويشير هيرودوت أن القرطاجنيين استطاعوا أن يهاجموا المستعمرين اليونان بمساعدة إحدى القبائل الليبية المسماة ، وتمكنوا من طرد المستعمرين الجدد من تلك المدينة المذكورة وعاد داريوس إلى جزر البولوبونيس بعد أن فشل في الاستيطان بليبيا حين تجاهله الاسبرطيون ولم يتخذوه ملكا لهم . ومما يؤكد أن الفينيقيين قد استقروا في طرابلس في وقت متأخر هو ما اكتشف في مدينة لبدة من آثار قديمة تحت المسرح الروماني ترجع إلى القرن الخامس ق.م ، وهي عبارة عن قطع من الفخار من النوع المعروف بالطراز الكورنتي الذي كان يجلب من مدينة كورنته إحدى المدن اليونانية ، وهو من النوع الجيد ذو اللون الأسود اللامع .
تأسيس مدينة طرابلس : لا شك أن الشعب الفينيقي كان قد اشتهر بنشاطه التجاري ، وكان على علم بمسالك البحار وطرقها ، كما أنه عرف سواحل أفريقيا الشمالية عندما أسسوا لهم بعض المراكز التجارية للراحة وللتبادل التجاري مع السكان وهم في طريقهم إلى إسبانيا . وقد أسست جماعة منهم مدن الساحل الليبي ، وذلك بعد استقرارهم في شمال أفريقيا وخاصة بعد تأسيس مستعمرتهم قرطاجنة التي وسعت ممتلكاتها حتى حدود برقة . وقد تمكن القرطاجنيون من المحافظة على أملاكهم في طرابلس ضد أطماع اليونان سواء كانوا من بلاد اليونان أو من اليونانيين ، الذين كانوا يحكمون برقة ومحاولتهم للاستيطان داخل النفوذ القرطاجني . وكانت المحاولة الأولى تحت زعامة داريوس الأسبرطي ، أما المحاولة الثانية فكانت في عهد البطالسة خلفاء الأسكندر المقدوني في حكم مصر (322 ق.م 30 ق.م) فقد حاولت قيرين أي مدينة شحات بتشجيع بطليموس الأول وحمايته غزو منطقة النفوذ القرطاجني واتفقت لهذا الغرض مع سرقوسة ، التي هجم ملكها على تونس ؛ فتشجع أوفيلاس حاكم قيريني في ذلك الوقت وهجم على منطقة طرابلس سنة 309ق.م إلا أن اوفيلاس أصيب بهزيمة نكراء ، حيث تمكن القرطاجنيون من القضاء عليه .
وبهذه الحملة الأخيرة على طرابلس من طرف اليونان ، انتهى آخر تهديد على قرطاجنة واستطاعت عند فشل الحملة المذكورة الاحتفاظ بأملاكها في غربي ليبيا وبسط حمايتها على مدن طرابلس وإلحاقها إداريا بامبراطورية قرطاجنة ، حيث تمكن القرطاجنيون عند استقرارهم في ليبيا من تأسيس بعض المدن على الساحل كمدينة لبدة وصبراتة ومدينة أويا ، أي مدينة طرابلس الحالية .
مدينة أويا : ذكر أن اسم أويا جاء أصلا من اسم قبيلة ليبية تدعى آيت ، وأن مثل هذه الصيغة وجدت في النقود البونيقية بشكل أويات ، كما ذكر أن أويا كانت تدعى أيضا بلدة مقاريا ، أي ترجع إلى الإله البونيقي ملقارت ، وهو يطابق عند الإغريق الإله هيرقل . وقد أشار البروفسور ميريجي في كتابة تاريخ طرابلس الغرب القديم إلى أنه قد عثر على قطعة من النقود القديمة بها نقش كتابي أي بمعنى أويا بلدة ملقارت . وقد ظل اسم أويا متداولا حتى في العهد الروماني ، فقد عثر على عملة قديمة بها الحروف الآتية أي بمعنى ، فقد منحت المدينة المذكورة في عهد الامبراطور الروماني تراجان 89-117 ميلادية حقوق المستعمرة ، وقد استمر ذلك حتى في عهد الامبراطور الروماني انطونيوس بيوس 138ـ161م .
هذا ولم يظهر أي أثر لمدينة أويا الفينيقية إلا أن علماء الآثار يعتقدون بأنها كانت في الجزء الشمالي الشرقي للمنطقة الموجودة فيها الآن المدينة القديمة حاليا ، أي بالقرب من المرفأ المكون من سلسلة صخور أدمجت حاليا ضمن الرصيف الشمالي الغربي للميناء . أما التخطيط الروماني فلا زال ظاهرا في تصميم شوارع المدينة القديمة وفي الإمكان معرفة الشوارع الرئيسية . ومما يدل على أن مدينة طرابلس قد اكتشفت في عهد سابق للعهد الروماني ، هو ما اكتشف من مدن طرابلس الأثرية من نقود قديمة ترجع للعهد الروماني على وجه كل عملة صورة الامبراطور الروماني تيبريوس (14ـ37ب م) وفي الوجه الآخر اسم كل مدينة باللغة البونيقية ، فقد استمر التأثير الحضاري الفينيقي في مدن طرابلس إلى أيام الرومان واستمرت الكتابة البونيقية مستعملة حتى في معاملاتها اليومية بالإضافة إلى شئونهم الإدارية والمالية .
أحوال مدن طرابلس أيام العهد الفينيقي : يروى أن تأسيس مدن طرابلس أو الامبوريا) كما سماها الكتاب اليونان كان بطيئا ، وقد تبين لعلماء الآثار الذين قد أشرفوا على الحفريات في المدن القديمة أن أول انتشار كبير للمدينة لم يحدث قبل القرن الثالث ق.م . فقد ذكر أن علاقة هذه المستعمرات بالحضارات القديمة كانت محدودة ، وذلك لأن سياسة قرطاجنة التي كانت تسيطر على هذه المدن كانت ترمي حسبما نصت المعاهدة التي أبرمت مع الرومان سنة 509ق.م ، وجددت عام 348 ق.م إلى تحريم كل ملاحة أجنبية من الاقتراب من الموانئ الفينيقية في شمال أفريقيا باستثناء البواخر التابعة لقرطاجنة . ومن نصوص هذه المعاهدة تبين لنا أن القرطاجنيين احتكروا الملاحة في حوض البحر الأبيض المتوسط ، كما أنهم منعوا الأهالي من الاحتكاك بالشعوب الأخرى احتكاكا مباشرا حتى يمكنهم الاستفادة بالفنون والصناعات المختلفة .
هذا بالإضافة إلى ذلك فقد عرضت على مدن طرابلس ضرائب باهظة ، وقد ذكر المؤرخ ليفي بأن الضريبة المفروضة على لبدة كانت قيمتها تالنت ، أي ما يوازي 2500 عاملا ، أي تساوي ما يقابل حوالى 240 جنيها استرالينيا . ويعتقد ان مثل تلك الضريبة كانت تجبى من المدن الأخرى كصبراتة وأويا . ومن الملاحظ من هذه الضريبة المفروضة على مدن طرابلس أنها كانت عبئا ثقيلا على كاهل مدن طرابلس ، ويحتمل ان الإدارة المحلية كانت تقوم بجمع هذه الضرائب حتى تفي بمطالب حكومة قرطاجنة ، وهذا مما يؤدي إلى تذمر أهالي البلاد وانتهاز أي فرصة للانفصال عن حكومة قرطاجنة ، وهذا ما حدث فعلا عند دخول الرومان إلى ليبيا ، حيث لم تحدث أي مقاومة تذكر من طرف السكان لصد الغزو الروماني لاحتلال مدن طرابلس . وقد ذكر أن مدينة لبدة أرسلت مندوبا عنها في سنة 106 ق.م إلى الرومان تطلب عقد معاهدة وحلف ، وقد لجأت فعلا إلى حكم الرومان . وبجانب الضريبة المشار إليها فيما سبق ، فقد كانت توجد ضريبة نوعية عن الرسوم الجمركية مفروضة على الواردات والصادرات وكان مطلوبا من المدن الثلاث تزويد حكومة قرطاجنة بالجنود والمؤونة التي تحتاج إليها في حالات الحرب كما أنه كان محرما على مدن طرابلس الاحتفاظ بقوات بحرية .
ويتضح من هذه السياسة التي نهجتها قرطاجنة هو التحكم في السيطرة على جميع المدن التابعة لها خوفا من أن تسعى إلى تكوين جيش قوي للاستقلال به عن حكومة قرطاجنة ، وهذا حدث عندما تمكن البربر سكان البلاد الأصليين من تأسيس ممالك مستقلة تحت زعامة قادة من أهالي البلاد .
هذا وإن مدينة لبدة كانت أهم مدن طرابلس أيام العهد الفينيقي ، فقد جعلها الفينيقيون مركزهم الإداري الداخلة في نطاقه مدينة أويا وصبراتة . وقد اختير هذا الموقع لأهميته عن المناطق الأخرى ، وذلك لأن الموقع الذي أنشئت فيه المدينة المذكورة كان به ميناء طبيعي يصلح تحويله إلى ميناء تجاري ، وذلك هو مصب وادي لبدة مما جعل موقع المدينة الفينيقية مركزا مهما لتجمع المواد التجارية والزراعية ، كما أن هذه المنطقة التي أقيمت فيها المدينة تمتاز بوفرة المياه الصالحة للشرب ، ولهذا السبب اتخذها الفينيقيون مركزهم الإداري عند استقرارهم في غربي ليبيا .
معيشة أهالي البلاد : قيل إن أهالي المستعمرات الفينيقية في طرابلس كانوا يتمتعون بشبه حرية تامة إلا أنه ذكر أن السكان الليبيين كانوا يعاملون بخلاف أهل تونس ، الذين كانت لهم مميزات المواطن القرطاجني ، فكانت قرطاجنة تعامل سكان هذه المنطقة معاملة المستعمرين (غير المواطنين البونيقيين) والذين تسميهم المصادر الرومانية باسم الليبيين وتميزهم بذلك عن سكان تونس البونيقيين . ويروى أن لبدة كانت لها تشريعاتها وقضاتها ، ويعتقد أن أويا وصبراتة كانتا تتمتعان بنفس المزايا ، فكان رئيس القضاة في لبدة يسمى Sufete مأخوذا أصلا من اللغة البونيقية Shofet ، ولا شك أن هذه التسمية كانت بمثابة إحياء لدستور المدينة الأصلي الفينيقي والمأخوذ من النظام السياسي وشكل الحكومة بقرطاجنة ، وكان يتم انتخاب رئيس القضاة مرة كل عام بمعرفة الجمعية الشعبية غير ان هذا الانتخاب كان محصورا على العائلات الارستقراطية والثرية مما جعل الحكم في أيدي فئة قليلة محدودة العدد طالما اطمأنت إليها حكومة قرطاجنة ، وقد تركت هذه الأقليات تدير أمورها الداخلية . وبجانب وجود القضاة أو السوفيت فإنه كانت هناك قضاة عاديين أطلق عليهم Muhazim ، أي المحصلين وترجع وظائف هؤلاء إلى العصور الفينيقية وكانت مهمتهم الرئيسية تحصيل الغرامات وتزويد السوق بما يلزم من مؤونة ومعدات ، أي نفهم من هذا أنهم كانوا يوجهون اقتصاديات البلاد حسبما يروق لهم . وقد استمر تأثير النظام الفينيقي في مدن طرابلس حتى أوائل العصر الروماني ، فقد كان البروقنصل وموظفوه القلائل يعتمدون على السلطات المحلية في مدن الولايات وذلك فيما يتعلق بإدارة الأعمال الحكومية ، ولهذا السبب لم يطرأ أي تعديل يذكر على نظام البلديات ، بل سارت الأمور على ما هي عليه دون تدخل محسوس من الرومان ، وتمكنت لبدة لهذا السبب من الإبقاء على دستورها الفينيقي ويعتقد أن مدينة أويا وصبراتة سلكتا نفس السياسة . هذا وقد أوضحت لنا الاكتشافات الأخيرة في طرابلس أن مدينة الفينيقيين قد توغلت حتى بين السكان الليبيين في الدواخل فقد عثر على بعض النقوش مكتوبة باللغة البونيقية في وادي العمود الذي يقع جنوب شرقي مزدة بحوالى 65 ك.م ويعتقد أنها تعود إلى القرن الأول ق.م وجد اثنان منها على ضريح نيمران بن ماشوككشان ، والذي يعتقد انه كان رئيسا محليا كما وجد نقش آخر كان على مقبرة اسرة عيرور بن حاطيط ، ويحتمل انه كان شخصية معتبرة .
اقتصاد مدن طرابلس : مما لا شك فيه أن الفينيقيين قد اعتمدوا في حياتهم على الانشغال بالتجارة ، فقد كانوا من أمهر التجار الذين عرفتهم أقاليم حوض البحر المتوسط ، وقد استخدموا طرقا معينة لنقل بضائعهم المختلفة إلى خارج البلاد من موانيهم في شواطئ فينيقيا إلى قبرص وجزيرة كورسيكا حتى شواطئ أسبانيا مارين بالسواحل الغربية من ليبيا . لذا فإن طرابلس كانت في أيامهم تعتمد على التجارة وخاصة تجارة القوافل عبر الصحراء ، حيث كانت في أيامهم البضائع الثمينة من أواسط أفريقيا الغنية بمنتوجاتها النادرة كريش النعام وناب الفيل ، ثم تجارة العبيد . وكانت هذه البضائع تباع إلى التجار الفينيقيين الذين كانوا يجلبون معهم الأدوات الصناعية من إنتاج مناطق متعددة ، سواء أكانت مصرية أو يونانية الصنع . وكانت شعوب البحر المتوسط تترقب وصول البضائع الفينيقية من أواني معدنية وأقمشة صوفية وقطنية .